فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{وقطعناهم في الأرض أممًا منهم الصالحون ومنهم دون ذلك} أي فرقًا متباينين في أقطار الأرض فقل أرض لا يكون منهم فيها شرذمة وهذا حالهم في كل مكان تحت الصغار والذلّة سواء كان أهل تلك الأرض مسلمين أم كفارًا و{أممًا} حال، وقال الحوفي مفعول ثان وتقدم قوله هذا في قطعناهم {اثنتي عشرة} و{الصالحون} من آمن منهم بعيسى ومحمد عليهما السلام أو من آمن بالمدينة ومنهم منحطون عن الصالحين وهم الكفرة وذلك إشارة إلى الصلاح أي و{منهم قوم} دون أهل الصلاح لأنه لا يعتدل التقسيم إلا على هذا التقدير من حذف مضاف أو يكون ذلك المعنى به أولئك فكأنه قال: {ومنهم قوم} دون أولئك، وقد ذكر النحويون أنّ اسم الإشارة المفرد قد يستعمل للمثنى والمجموع فيكون {ذلك} بمعنى أولئك على هذه اللغة ويعتدل التقسيم والصالحون و{دون ذلك} ألفاظ محتملة فإن أريد بالصلاح الإيمان فدون ذلك يُراد به الكفار وإن أريد بالصلاح العبادة والخير وتوابع الإيمان كان دون ذلك في مؤمنين لم يبلغوا رتبة الصلاح الذي لأولئك، والظاهر الاحتمال الأول لقوله: {لعلهم يرجعون} إذ ظاهر قوله: {وبلوناهم} إنهم القوم الذين هم دون أولئك وهو من ثبت على اليهودية وخرج من الإيمان ودون ذلك ظرف أصله للمكان ثم يستعمل للانحطاط في المرتبة، وقال ابن عطية: فإن أريد بالصلاح الإيمان فدون ذلك بمعنى غير يراد به الكفرة انتهى، فإن أراد أنّ {دون} ترادف غيرًا فهذا ليس بصحيح وإن أراد أنه يلزم ممن كان دون شيء أن يكون غيرًا فصحيح و{دون} ظرف في موضع رفع نعت لمنعوت محذوف ويجوز في التفصيل بمن حذف الموصوف وإقامة صفته مقامة نحو هذا ومنه قولهم منا ظعن ومنا أقام.
{وبلوناهم بالحسنات والسيئات} أي بالصحة والرخاء والسعة والسيئات مقابلاتها.
{لعلهم يرجعون} إلى الطاعة ويتوبون عن المعصية. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وقطعناهم} أي فرقنا بني إسرائيلَ {فِى الأرض} وجعلنا كل فِرقةٍ منهم في قُطر من أقطارها بحيث لا تخلو ناحيةٌ منها منهم تكملةً لأدبارهم حتى لا تكون لهم شوكةٌ، وقوله تعالى: {أُمَمًا} إما مفعولٌ ثانٍ لقطّعنا أو حال من مفعوله {مّنْهُمُ الصالحون} صفةٌ لأممًا أو بدلٌ منه وهم الذين آمنوا بالمدينة ومن يسير بسيرتهم {وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك} أي ناسٌ دون ذلك الوصفِ أي منحطّون عن الصلاح وهم كَفرتُهم وفَسَقتُهم {وبلوناهم بالحسنات والسيئات} بالنعم والنقم {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عما كانوا فيه من الكفر والمعاصي. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا}.
{وقطعناهم} أي فرقنا بني اسرائيل أو صيرناهم {فِى الأرض} وجعلنا كل فرقة منهم في قطر من أقطارها بحيث لا يكاد يخلو قطر منهم تكملة لأدبارهم حتى لا يكون لهم شوكة وهذا من مغيبات القرآن كالذي تضمنته الآية قبل، وقوله سبحانه: {أُمَمًا} إما مفعول ثان لقطعنا وإما حال من مفعوله {مّنْهُمُ الصالحون} وهم كما قال الطبري من آمن بالله تعالى ورسوله وثبت على دينه قبل بعث عيسى عليه الصلاة والسلام وقيل هم الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ونسب ذلك إلى ابن عباس.
ومجاهد، وقيل: هم الذين وراء الصين وهو عندي وراء الصين، والجار متعلق بمحذوف خبر مقدم والصالحون مبتدأ، وجوز أن يكون فاعلًا للظرف والجملة في موضع النصب صفة لأمم على الاحتمالين، وجوز أن تكون في موضع الحال وهي بدل من أمم على الاحتمال الثاني وأن تكون صفة موصوف مقدر هو البدل على الأول أي قومًا منهم الصالحون {وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك} أي منحطون عن أولئك الصالحين غير بالغين منزلتهم في الصلاح وهم الذين امتثلوا بعض الأوامر وخالفوا بعضًا مع كونهم مؤمنين، وقيل: هم الكفرة منهم بناء على أن المراد بالصلاح الإيمان، وقيل: المراد بهم ما يشمل الكفرة والفسقة، والجار متعلق بمحذوف خبر مقدم و{دُونِ} على ما ذكره الطبرسي مبتدأ إلا أنه بقي مفتوحًا لتمكنه في الظرفية مع إضافته إلى المبنى، ومثله على قول أبي الحسن {بَيْنِكُمْ} في قوله سبحانه: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] أو المبتدأ محذوف والظرف صفته أي ومنهم أناس أو فرقة دون ذلك، ومن المشهور عند النحاة أن الموصوف بظرف أو جملة يطرد حذفه إذا كان بعض اسم مجرور بمن أو في مقدم عليه كما في منا أقام ومنا ظعن، ومحط الفائدة الانقسام إلى أن هؤلاء منقسمون إلى قسمين، ومن الناس من تكلف في مثل هذا التركيب لجعل الظرف الأول صفة مبتدأة محذوف، وجعل الظرف الثاني خبرًا لما ظنه داعيًا لذلك، وليس بشيء، والإشارة للصالحين، وقد ذكروا أن اسم الإشارة المفرد قد يستعمل للمثنى والمجموع وقد مرت الإشارة إليه، وقيل: أشير به إلى الصلاح كما يقتضيه ظاهر الأفراد ويقدر حينئذ مضاف وهو أهل مثلا {وبلوناهم بالحسنات} الخصب والعافية {والسيئات} الجدب والشدة {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي يتوبون عما كانوا عليه مما نهوا عنه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا}.
عطف قصة على قصة، وهو عود إلى قصص الإخبار عن أحوالهم، فيجوز أن يكون الكلام إشارة إلى تفرقهم بعد الاجتماع، والتقطيع التفريق، فيكون محمودًا مثل {وقطّعناهم اثنتي عشرة أسباطًا} [الأعراف: 160]، ويكون مذمومًا، فالتعويل على القرينة لا على لفظ التقطيع.
فالمراد من الأرض الجنس أي في أقطار الأرض.
و{أممًا} جمع أمّة بمعنى الجماعة، فيجوز أن يكون المراد هنا تقطيعًا مذمومًا أي تفريقًا بعد اجتماع أمتهم فيكون إشارة إلى أسر بني إسرائيل عندما غزا مملكة إسرائيل شلمناصرُ مَلك بابل.
ونقلهم إلى جبال انشور وأرض بابل سنة 721 قبل الميلاد.
ثم أسر بُخْتنصّر مملكة يهوذا وملكها سنة 578 قبل الميلاد، ونقل اليهود من أرشليم ولم يبق إلاّ الفقراء والعجّز.
ثم عادوا إلى أرشليم سنة 530، وَبَنوْا البيت المقدس إلى أن أجلاهم طيطوس الروماني، وخرّب بيت المقدس في أوائل القرن الثاني بعد الميلاد، فلم تجتمع أمتهم بعد ذلك فتمزقوا أيدي سبأ.
ووصف الأمم بأنهم {منهم الصالحون} إيذان بأن التفريق شمل المذنبين وغيرهم، وأن الله جعل للصالحين منزلة إكرام عند الأمم التي حلّوا بينها، كما دل عليه قوله: {وبلوناهم بالحسنات والسيّئات}.
وشمل قوله: {ومنهم دون ذلك} كل من لم يكن صالحًا على اختلاف مراتب فقدان الصلاح منهم.
و{الصالحون} هم المتمسكون بشريعة موسى والمصدقون للأنبياء المبعوثين من بعده والمؤمنون بعيسى بعد بعثته، وأن بني إسرائيل كانوا بعد بعثة عيسى غير صالحين إلاّ قليلًا منهم: الذين آمنوا به، وزادوا بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وعدم إيمانهم به، بُعدًا عن الصلاح إلاّ نفرًا قليلًا منهم مثل عبد لله بن سَلام، ومخيريق.
وانتصب {دونَ ذلك} على الظرفية وصفًا لمحذوف دل عليه قوله: {منهم} أي ومنهم فريق دون ذلك، ويجوز أن تكون من بمعنى بعض اسمًا عند من يجوّز ذلك، فهي مبتدأ، و{دون} خبر عنه.
ويحتمل أن تكون الآية تشير إلى تفريقهم في الأرض في مدة ملوك بابل، وإنهم كانوا في مدة إقامتهم ببابل {منهم الصالحون} مثل دانيال وغيره، ومنهم دون ذلك، لأن التقسيم بمِنهم مشعر بوفرة كلا الفريقين.
وقوله: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات} أي أظهرنا مختلف حال بني إسرائيل في الصبر والشكر، أو في الجزع والكفر، بسبب الحسنات والسيئات، فهي جمع حسنة وسيئة بمعنى التي تَحسن والتي تَسوء، كما تقدم في قوله: {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئةٌ يطيّروا بموسى ومن معه} [الأعراف: 131] وعلى هذا يكون الحسنات والسيئات تفصيلًا للبلوى، فالحسنات والسيئات من فعل الله تعالى، أي بالتي تحسن لفريق الصالحين وبالتي تسوء فريق غيرهم، توزيعًا لحال الضمير المنصوب في قوله: {بلوناهم}.
وجملة: {لعلهم يرجعون} استئناف بياني أي رجاء أن يتوبوا أي حين يذكرون مدة الحسنات والسيئات، أو حين يرون حسن حال الصالحين وسوء حال من هم دون ذلك، على حسب الوجهين المتقدمين.
والرجوع هنا الرجوع عن نقض العهد وعن العصيان، وهو معنى التوبة.
هذا كله جري على تأويل المفسرين الآية في معنى {قَطّعناهم}.
ويجوز عندي أن يكون قوله: {وقطعناهم في الأرض أممًا}، عودًا إلى أخبار المنن عليهم، فيكون كالبناء على قوله: {وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطًا أممًا} [الأعراف: 160]، فيكون تقطيعًا محمودًا، والمراد بالأرض: أرض القدس الموعودة لهم أي لكثرناهم فعمروها جميعها، فيكون ذكر الأرض هنا دون آية: {وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطًا أممًا} [الأعراف: 160] للدلالة على أنهم عمروها كلها، ويكون قوله: {منهم الصالحون} إنصافًا لهم بعد ذكر أحوال عدوان جماعاتهم وصم آذانهم عن الموعظة، وقوله: {وبلوناهم} إشارة إلى أن الله عاملهم مرة بالرحمة ومرة بالجزاء على أعمال دهمائهم. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)}.
وقد قال سبحانه قبل ذلك أيضًا: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا...} [الأعراف: 160].
ولكن القول هنا يجيء لمعنى آخر: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَمًا مِّنْهُمُ الصالحون وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك}.
وقد قطعهم الحق حتى لا يبقى لهم وطن، ويعيشون في ذلة؛ لأنهم مختلفون غير متفقين مع بعضهم منذ البداية، كانوا كذلك منذ أن كانوا أسباطًا وأولاد إخوة على خلاف دائم. وهنا يقول الحق: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَمًا}.
ومعنى {وَقَطَّعْنَاهُمْ} أي أن كل قطعة يكون لها تماسك ذاتي في نفسها، وأيضًا لا تشيع في المكان الذي تحيا فيه، ولذلك قلنا: إنهم لا يذوبون في المجتمعات أبدًا،- كما قلنا- فعندما تذهب إلى أسبانيا مثلًا تجد لهم حيًّا خاصًّا، كذلك فرنسا، وألمانيا، وكل مكان يكون لهم فيه تجمع خاص بهم، لا يدخل فيه أحد، ولا يأخذون أخلاقًا من أحد، وشاء الحق بعد ذلك أن قال لهم: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ...} [المائدة: 21].
فبعد أن مَنَّ عليهم بأرض يقيمون فيها، قالوا: {... إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24].
فحرم الله عليهم أن يستوطنوا وطنا واحدًا يتجمعون فيه، ونشرهم في الكون كله لأنهم لو كانوا متجمعين لعم فسادهم فقط في دائرتهم التي يعيشون فيها. ويريد الله أن يعلن للدنيا كلها أن فسادهم فساد عام. ولذلك فهم إن اجتمعوا في مكان فلابد أن تتآلب عليهم القوى وتخرجهم مطرودين أو تعذبهم، وأظن حوادث هتلر الأخيرة ليست بعيدة عن الذاكرة، وقد أوضحنا ذلك من قبل في شرح قوله الحق: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض...} [الإِسراء: 104].